الطبق
لم تستطع إغماض عينيها تلك الليلة .. إنها تتذكر ذلك الحوار الذي دار بينها وبين أبنائها اليوم.
قد يكون كلام خالد صحيحًا
الكل يريد ذلك الطبق إلا أنا ...
أغلب الناس أدخلوه في منازلهم.. أيكون كل هؤلاء على خطأ وأنا على صواب؟!
استغل الشيطان فرصته.. لم تستطع النوم وهي تفكر في إلحاح أبنائها عليها..
قد أكون على خطأ؛ فلو كنت على صواب لأصاب معي جارنا أبو أحمد.. إنه رجل محافظ على صلاة الجماعة، ومع ذلك أدخله ليشاهد الأخبار فقط...
نعم.. سأفعل مثله.. سأرضي أبنائي وسأدخله؛ لكن بشرط أن لا يروا إلا الأخبار والبرامج الدينية.
تنبهتْ من حوارها مع نفسها على صوت المؤذن... الله أكبر.. الله أكبر.. إنه
بداية يوم جديد..
قامت من سريرها.. توضأت وصلت الفجر.. ألقت نظرة من النافذة خيوط الشمس الذهبية تداعب خصلات شعرها الأبيض..
أخذت تتأمل بيوت الحي.. وتمعن النظر في صحون الاستقبال.. وكأنها مرة تراها.. إنها في حيرة من أمرها.. اليوم سيشتري خالد الدش.. آه.. رحمك الله يا أبا خالد... لو كنت حيًا لما حدث كل هذا.. هل كنت سترشى بدخوله المنزل.. لقد حان موعد استيقاظ الأولاد.. خرجت من غرفتها وتوجهت إلى غرفهم..
خرج خالد وهو بكامل أناقته..
خالد.. هل ستذهب إلى الجامعة؟ لا زال الوقت مبكرًا.. أمي.. هل نسيت أن اليوم عطلة؟ أنا ذاهب لشراء الطبق.. إلى اللقاء..
لم تجتمع الأسرة في غرفة واحدة منذ وفاة أبي خالد .. أما اليوم فهم يتسابقون إلى غرفة الجلوس.
الجميع مسرورون.. الأبصار مشدودة إلى ذلك الجهاز.. أما هي فوجهها مكفهر.. إنها كئيبة.. حزينة.. تفكر في حالها وحال أبنائها.
وجَّه خالد الكلام إلى أمه..
أمي.. سبحان الله .. إن هذا الطبق يجعلك تتفكرين في قدرة الخالق.. كيف خلق هذا العقل الذي ابتكر هذا الجهاز؟ إنه ينقل لنا ما في الغرب والشرق ونحن في بيوتنا وأماكننا.
أما هي فقد كانت تفكر في كلام أبي خالد ورفضه الشديد في إدخال مثل هذه الأجهزة إلى بيته ... لم تنس حرصه على تقويم سلوكيات وأخلاق أبنائه.. دائمًا كان يقول: إن هؤلاء الأبناء أمانة عظيمة في أعناقنا.. وسنسأل عنهم يوم القيامة..
يقطع تفكيرها ابنها الصغير سعيد..
أمي.. نحن جائعون..
قالت: سوف أذهب لإحضار العشاء لكم.. توجهت إلى المطبخ.. استغل سعيد الفرصة..
خالد! يجب أن تضع البرامج الدينية كي تقتنع أمي بالدش وتكف عن مراقبتنا..
خالد.. نعم.. إنك محق..
سعاد... أوه.. أرجو أن لا يطول ذلك..
جاءت الأم وهي تحمل الطعام.. تحلق الجميع حول المائدة.. قال سعيد: أمي.. لا حاجة بعد اليوم للأشرطة.. ما عليك إلا أن تفتحي الدش وتري وتسمعي ما تريدين.
قالت الأم: جيد.. ثم استأنفت قائلة: أنا متعبة؛ سوف أذهب لأنام.
لم يستطيعوا إخفاء فرحتهم.. قالت سعاد: نعم يا أمي.. يبدو عليك الإرهاق.. خذي راحتك وسوف أتكفل بكل شئ بعد الانتهاء من الطعام..
تصبحون على خير.. الجميع: تصبحين على خير..
وكالعادة في النهار.. البيت خال.. الكل في المدارس والجامعات.. لا يوجد إلا هي في البيت وأمامها هذا الطبق..
حاولت أن تشغل وقتها؛ ولكن دون جدوى؛ فالوقت طويل.. بدأت تحدثها نفسها لتفتح التلفاز..
لا.. لا.. ولكني أحس بالملل ولا يوجد ما يشغل وقت فراغي..
كلا.. سوف أتصل على أم أحمد.. فمنذ زمن بعيد لم تزرني؛ لعلها تأتي اليوم لزيارتي..
جرس الهاتف يرن في بيت أم أحمد ..
أم أحمد.. أوه.. من يتصل في هذا الوقت..
نعم..
أهلاً.. أم أحمد.. أم خالد تتحدث..
مرحباً.. أم خالد.. كيف حاله؟! ما هي أخبارك؟..
اعذريني يا أم خالد؛ فأنا مشغولة الآن.. أريد أن أتابع مسلسل الصباح.. سأتصل عليك عندما ينتهي.
أم خالد.. حسنًا ولكن ما رقم القناة؟!..
أم أحمد .. مبروك.. هل أدخلتم الدش؟
أم خالد.. نعم .. قبل أسبوع..
أم أحمد.. إنها القناة الرابعة..
أم خالد.. شكراً.. إلى اللقاء..
إلى اللقاء..
فتحت التلفاز على القناة الرابعة.. وأخذت تتابع المسلسل وعندما انتهى أخذت تحرك القنوات.. رائع لم أتصور أن يكون الدش بهذه الصورة..
كم كنت معقدة عندما رفضت إدخاله..
حان موعد مجيء الأولاد..
جرس الباب يرن.. إنها سعاد..
فتحت الأم بسرعة.. ثم توجهت إلى غرفة الجلوس..
تعجبت سعاد وهي تراقب والدتها من بعيد.. لا أصدق ما أرى..
الأم.. سعاد.. تعالي بسرعة.. هناك برنامج مسابقات.. انه ممتع..
وبعد مرور الأيام.. بدأت الأم تستلم .. حاولت أن تجاهد نفسها والشيطان.. لكن الشيطان كان لها بالمرصاد.. إنه يزين لها المعصية.. فما أن تضغط أحد الأزرار.. حتى يخترق مسامعها الكثير من الأغاني الماجنة.. ويمر أمام ناظريها العديد من المشاهد المقززة.. حتى ألفتها وأصبحت شغلها الشاغل.
كان خالد يتابع تصرفات أمه بتعجب.. أحس بغلطته.. كيف استسلمت بهذه السرعة وهي التي كانت توجههم وتنصحهم؟ كانت ترفض الرذيلة وتحاربها.. كان ضميره يؤنبه ولكنه يتجاهل ذلك مقابل متعة نفسه..
مرت فترة من الزمن وهم على هذه الحال.. وفي يوم من الأيام..
تخرج الأم من غرفتها بكامل زينتها.. مكياج.. ملابس ضيقة ومفتوحة.. رائحة العطر الباريسي تفوح في كل مكان.. العباءة مزركشة وقد وضعتها على كتفها.. وهي من عرفت بالستر والحشمة والعفاف..
قالت.. هيا يا خالد.. هيا بنا لقد تأخرت على موعدي.. قال خالد باستغراب.. ولكن إلى أين؟
الأم.. إلى محل الكوافير.. أريد أن أصبغ شعري باللون الأشقر.. فعندي الليلة سهرة..
زاغت عينا سعيد.. وفتحت سعاد فاها.. أما خالد فقد قال..رحمك الله يا أبا خالد.. لو كنت هنا لما حدث كل هذا..