حمد وثناء
قرع الجرس معلنًا انتهاء الحصة.. وفي هذه الأثناء كنت أسمع آهات وزفرات وأنات تشبه أنين المريض المتأوه.. إنه صادر من صديقتي التي بجواري.. أقلقني حالها وعلامات الحزن والآلام تبدو على محياها.. التفتُّ إليها: سألتها: ما الأمر يا (...) هل حدث شيء؟ خير إن شاء الله..
ردت.. لا شيء.. ( حاولت إخفاء الحزن الذي يبدو على قسمات وجهها) ..
قلت لها: أنا صديقتك.. وأشعر أن هناك شيئاً يقلقك.. إذا لم أقف معك في وقت الضيق فما فائدة هذه الأخوة؟؟
سقطت دمعة من عينيها.. تمتمت: الحمد لله على كل حال..
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
أنت تعلمين يا صديقتي وضعي البائس الذي أعيشه.. فأنا وحيدة بين إخوتي من أبي مع أمي.. ولم يبق لي سوى أبي الذي انشغل بزوجته وأبنائه.. ونسيني.. إنه لا يعلم عني شيئًا.. يفضلهم عليَّ ويحبهم أكثر مني.. إذا طلبوا منه شيئًا لبى لهم طلباتهم أما أنا فلا يهمه أمري.. أصبحت أعيش في عزلة.. أحس بالضيق.. لا أحد يفهمني في هذه الحياة.. آه يا قلبي المسكين..
ابتسمت لها.. قلت: ألهذا السبب أنت حزينة؟؟ أنا لا أستخف بأمرك.. ولكنني عرفتك قوية.. صبورة ..تحسنين الظن بمن حولك.. لا تجعلي للشيطان طريقا إلى نفسك الطيبة.. انظري إلى الحياة بتفاؤل.. ولا تنظري إلى المرفهين المنعمين.. انظري إلى البائسين وما أكثرهم حولنا.. أنت في نعمة وسعادة بالنسبة لهم.. فإليك فلانة.. إنها تحمل سجلا مليئا بالمعاناة والمآسي.. انظري إليها وادعي الله لها أن يكشف كربها ويزيل ضرها ويرحم حالها.. فمنذ أن كانت في السابعة من عمرها لم تع ما حولها.. شيء واحد عرفته؛ أنها تعيش بلا أم.. فقد ماتت أمها وتركت لها أربعة أخوات.. تحملت في ذلك السن عبء المسؤولية.. ولك أن تتخيلي.. طفلة في السابعة تقوم بالحضانة والتربية لشقيقتها الصغرى ذات الخمسة أشهر.. كان أبوها مشغولاً بطلب الرزق.. وبسبب هذه الحالة اضطر الوالد إلى ترك عمله وجلس مع بنياته الصغيرات ليرعاهن.. ومع مرور الأيام أخذ الأب يفكر: من أين يأتي لهن بلقمة العيش؟.. من أين سيصرف على بناته؟؟
تلك الطفلة الصغيرة كانت ترى أباها وهو يبكي ويمسح دمعاته يفكر في وسيلة وحل للمأزق الذي يمر به..
إنها دموع الألم والمرارة وهو يرى بنياته الصغيرات وهن بحاجة إلى رعاية واهتمام.. لم يدم
الوضع طويلاً فقد وجد حلاً وإن كان مراً قاسيًا لكنه أنسب من وضعهن الحالي.. تفرقت الأسرة وانقسمت البنات إلى مجموعتين.. إحداهما ذهبت إلى زوجة أخيه الأكبر.. والمجموعة الثانية ذهبت إلى بيت أخيه الأصغر.. وكان من ضمن أولئك تلك الفتاة؛ لأنها أيضًا تحتاج إلى تربية ورعاية.. كان الأب يصرف عليهن وهن في بيوت أعمامهن..
تحسنت ظروف الأب.. تزوج والتمَّ شمل العائلة من جديد.. لكن الفتيات لقين الكثير من القسوة والإهانة من زوجة أبيهن.. فاضطر الوالد تفاديًا للمشاكل أن يزوج ابنته هذه بعد أن بلغت الرابعة عشر من عمرها زوجها شيخاً كبيرًا.. أتصدقين أن هذه الفتاة تعد من أحفاده.. حاولت أن تتلاءم مع هذه الحياة الجديدة المريرة لكنها لم توفق معه.. فعادت إلى منزل أبيها مطلقة وهي في عز شبابها؛ بل في عز صباها..
تفرغت للعلم.. انكبت على القراءة؛ لعلها تعوض ما فات من عمرها دون تعليم.. تريد أن تنسى آلامها.. أيام الشقاء التي عاشتها.. مرت الأيام وهي تنهل من معين العلم والمعرفة.. كانت متفوقة في دراستها.. ويقدر الله لها أن تصاب بمرض غريب عجز الأطباء عن معرفة سببه أو علاجه.. مرض أخل بعقلها وشل أطرافها وأثقل لسانها.. لو رأيتها وهي في ذلك الحال لبكيت حزنًا عليها.. أصبحت طريحة الفراش.. مثقلة بالهموم والأحزان.. ووالله إن منظرها ليدمي القلب.. فمن يراها لا يصدق أن هذه فلانة صاحبة العقل والجمال والذكاء
فاحمدي الله على ما أنت عليه.. اصبري على مصابك فإن هناك أناسًا أشد منك ومع ذلك هم صابرون محتسبون..
وما أن انتهيت من كلامي حتى رفعت رأسها إليَّ قائلة: صدقت.. والله إننا في نعمة عظيمة.. جزاك الله خيرًا على نصيحتك هذه؛ لقد امتلأ قلبي بالأمل والتفاؤل والبشر.. حقًا إن نعم الله علينا كثيرة فيلزمنا أن نعطيها حقها من الشكر والثناء لله سبحانه وتعالى.
قال رسول الله : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم». متفق عليه.